وفي الفتاوي الكبري لابن حجر
وسئل) - رضي الله عنه - بما صورته ما تقولون في مسألة وقع فيها جوابان مختلفان صورتها صحراء واسعة يسيل ماؤها إذا أتى المطر في بستان جماعة وفي الصحراء المذكورة مقبرة جرت العادة أن من أراد الدفن فيها فلا مانع له وليست موقوفة
فدفن فيها رجل من أهل العلم والصلاح فهل يجوز البناء عليه مدرسة أو قبة أو تربة ونحو ذلك لينتفع الحي والميت بالقراءة فيها وليتميز بها عن غيره ويكثر زواره والتبرك به أو لا؟
أجاب الأول فقال يكره البناء في المقبرة المسبلة بل لا يجوز لما فيه من التضييق على الناس وقد قال الإمام شهاب الدين الأذرعي الوجه في البناء على القبور ما اقتضاه إطلاق ابن كج من التحريم من غير فرق بين ملكه وغيره للنهي العام ولما فيه من الابتداع بالقبيح وإضاعة المال والسرف والمباهاة ومضاهاة الجبابرة والكفار والتحريم يثبت بدون ذلك اهـ جواب الأول؟
وأجاب الثاني فقال يجوز البناء في الصحراء المذكورة
لأمور
أحدها أن هذه الصحراء حكمها حكم الموات
وقد قال الإمام ابن العماد إن كانت أي المقبرة مواتا لم يحرم البناء فيها وإن كانت مملوكة جاز البناء فيها بإذن المالك الأمر.
الثاني أن الإمام بدر الدين الزركشي نقل في الخادم عن الشيخ الإمام شرف الدين الأنصاري كلاما طويلا في الكلام على القرافة ذكر في أثنائه أن السلف - رضي الله عنهم - شاهدوا هذه القرافة الكبرى والصغرى من الزمان المتقدم وبني فيها الترب والدور ولم ينكره أحد من علماء الأعصار لا بقول ولا فعل قال وقد بنوا فيه قبة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ومدرسته وهكذا سائر المزارات إلى آخر كلام الشرف الأنصاري قال بعض المتأخرين واقتضى كلامه عدم تحريم البناء في المسبلة قال وإذا لم يحرم في مسبلة لم يحرم في موات ومملوك بإذن مالكه من باب أولى قال وهو مخالف لما تقدم عن الأذرعي.
الثالث أن الحاكم قال في مستدركه إثر تصحيح أحاديث النهي عن البناء والكتب على القبور ليس العمل عليها فإن أئمة المسلمين شرقا وغربا البناء على قبورهم وهو أمر أخذه الخلف عن السلف قال البرزلي فيكون إجماعا الأمر
الرابع أن ما قاله الإمام الأذرعي فيه نظر فقد ذكر هو في الوصايا عن الشيخين من غير اعتراض عليهما جواز الوصية لعمارة قبور الأولياء والصالحين لما فيها من إحياء الزيارة والتبرك بها وقال أعني الإمام الأذرعي في الوقف بعد نقله هذا الكلام قلت وقضيته جواز الوقف على عمارة هذا النوع ويختص المنع بغيره وعلى جواز الوقف على قبور أهل الخير العمل اهـ المقصود من كلام الإمام الأذرعي.
وقد ذكر هو أيضا في الوصايا أن الوصية والوقف إنما يجوزان فيما يكون قربة عند الموصي أو الواقف الأمر
الخامس أن بعض علماء أئمتنا المتأخرين ذكر كلاما حسنا يؤيد جواز البناء فقال قلت ذكروا صحة الوصية لبناء المسجد الأقصى وقبور الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وألحق الشيخ أبو محمد بها قبور العلماء والصالحين لما فيها من الإحياء بالزيارة.
وقد ذكر الغزالي - رضي الله عنه - في الوسيط والإحياء كلاما يدل على جواز البناء على قبور علماء الدين ومشايخ الإسلام وسائر الصلحاء ولا يبعد جواز ذلك حملا على الإكرام قال وفي شرح التنبيه للإمام ابن الرفعة ما يدل على جواز البناء كما في الوسيط والإحياء بل على استحبابه ولا شك في ذلك لوجوده في جميع أمصار الإسلام قديما وحديثا قال ولم ينقل عن أحد من العلماء والصلحاء ولاة أمور الدين إنكار فيه بقول ولا فعل مع عدم الشك في تمكنهم منه والله تعالى أعلم اهـ
السؤال فما المرجح
المعتمد من الجوابين وما قولكم رضي الله عنكم إذا كانت الصحراء التي فيها المقبرة المذكورة غير موقوفة وكانت صفتها على ما ذكرنا أولا فهل يا شيخ الإسلام حكم هذه الصحراء حكم المسبلة لكون من أراد الدفن فيها فلا مانع له أم حكمها حكم الأرض المملوكة لكون مائها إذا أتى المطر يسيل في بستان جماعة أم حكمها حكم الأرض الموات كما قال بعض المفتين من علماء العصر.
فإن قلتم حكمها حكم المسبلة فإذا كانت الصحراء واسعة فهل يجوز البناء فيها إذا لم يحصل التضييق لسعة البقعة سيما أنهم عللوا كراهة البناء لما فيه من التضييق بل هذا التعليل في جواب الأول وإن قلتم حكمها حكم الأرض المملوكة جاز البناء فيها بإذن المالك كما تقدم عن الإمام ابن العماد.
وإن قلتم حكمها حكم الموات كما قال بعض المفتين من علماء العصر فمن أحياها أو قطعة منها ملكها وصارت ملكا له من أملاكه يتصرف فيها كيف يشاء كما قال هذا المفتي بل كلام من جوز البناء محمول على ما إذا كان البناء في موات أو ملك أوضحوا لنا القول في ذلك بجواب شاف يحصل به المقصود وما قولكم رضي الله عنكم في قول من قال يكره البناء على القبر والكتابة وأن يعلم بعلامة زائدة وقيل لا يكره البناء إذا كان الميت من المشايخ والعلماء والسادات نقل من جامع الفتاوى هل الكراهة للتنزيه.
وقوله وقيل لا يكره البناء إلخ هل رأيتم ما يعضده غير ما ذكرنا في السؤال الأول
وما قولكم فسح الله في مدتكم وأعاد علينا من بركتكم في قول الشيخين في الجنائز يكره البناء على القبر وقالا في الوصية تجوز الوصية لعمارة قبور العلماء والصالحين لما في ذلك من الإحياء بالزيارة والتبرك بها هل هذا تناقض مع علمكم أن الوصية لا تنفذ بالمكروه فإن قلتم هو تناقض فما الراجح وإن قلتم لا فما الجمع بين الكلامين؟
(فأجاب) بقوله المنقول المعتمد كما جزم به النووي في شرح المهذب حرمة البناء في المقبرة المسبلة فإن بني فيها هدم ولا فرق في ذلك بين قبور الصالحين والعلماء وغيرهم وما في الخادم مما يخالف ذلك ضعيف لا يلتفت إليه وكم أنكر العلماء على باني قبة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وغيرها وكفى بتصريحهم في كتبهم إنكارا والمراد بالمسبلة كما قاله الإسنوي وغيره التي اعتاد أهل البلد الدفن فيها أما الموقوفة والمملوكة بغير إذن مالكها فيحرم البناء فيهما مطلقا قطعا إذا تقرر ذلك فالمقبرة التي ذكرها السائل يحرم البناء فيها ويهدم ما بني فيها وإن كان على صالح أو عالم فاعتمد ذلك ولا تغتر بما يخالفه.
وأما المسألة الثانية فقد علم جوابها مما تقرر وهو أنه حيث اعتيد الدفن في محل من الصحراء حرم البناء فيها وهدم وإن لم يحصل به تضييق في الحال لأنه يحصل به ذلك في الاستقبال ولأن من شأن البناء أن يضيق وكون مائها إذا أتى المطر يسيل إلى بستان جماعة لا يخرجها عن كونها مسبلة ويلحقه بالموات خلافا لما نقل عن بعض المفتين نعم إن اتخذ أصحاب البستان في ذلك المحل الذي اعتيد الدفن فيه مجاري للماء حتى يصل إلى بستانهم وكان ذلك الاتخاذ قبل أن يصير ذلك المحل مسبلا ملكوا تلك المجاري وحريمها ولم يجز الدفن فيها
وأما المسألة الثالثة فالحاصل من اضطراب وقع للشيخين فيها أن قولهما في الجنائز يكره البناء على القبر مرادهما بناء في ملك الشخص أو غيره بإذنه فإن أراد المسبلة أو الموقوفة كان مرادهما كراهة التحريم وما ذكراه في الوصايا محمول على غير البناء في المسبلة لما تقرر لك أولا وكراهة الكتابة وما بعدها للتنزيه لا للتحريم
وفي فتاوي الكبري لابن حجر
No comments:
Post a Comment