Sunday, July 17, 2022

അല്ലാഹു അർ ശിലോ റാസി ഇമാം പറയുന്നു.

 قال الأمام الرازي في تفسيره157


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)الاعراف


أما قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقرا على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ، ووجوه نقلية . أما العقلية فأمور : أولها : أنه لو كان مستقرا على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا وإلا لزم كون العرش داخلا في ذاته وهو محال ، وكل ما كان متناهيا فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري ، فلو كان الباري تعالى متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا ، ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالا . وثانيها : لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات ، وإما أن يكون متناهيا في كل الجهات . وإما أن يكون متناهيا من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعا . 


بيان فساد القسم الأول : أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية ، وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات ، وتعالى الله عنه ، وأيضا فعلى هذا التقدير : تكون السماوات حالة في ذاته ، وتكون الأرض أيضا حالة في ذاته . 


إذا ثبت هذا فنقول : الشيء الذي هو محل السماوات ، إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره ، فإن كان الأول لزم كون السماوات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلا ، وكل حالين حلا في محل واحد ، لم يكن أحدهما ممتازا عن الآخر ، فلزم أن يقال : السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذات ، وذلك باطل ، وإن كان الثاني : لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال . والثالث : وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات ، فإما أن يقال : الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة ، وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة ؟ وهو محال في بديهة العقل . وأما إن قيل : الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال . 


وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : أنه تعالى متناه من كل الجهات . فنقول : كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين ، لأجل تخصيص مخصص ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وأيضا فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديما أزليا فاعلا للعالم ، فلم لا يعقل أن يقال : خالق العالم هو الشمس ، أو القمر ، أو كوكب آخر ، وذلك باطل باتفاق . 


وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : أنه متناه من بعض الجوانب ، وغير متناه من سائر الجوانب ، فهذا أيضا باطل من وجوه : أحدها : أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهيا غير ما صدق عليه كونه غير متناه ، وإلا لصدق النقيضان معا وهو محال . وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض ، وثانيها : أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيا ، إما أن يكون مساويا للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه ، وإما أن لا يكون كذلك ، والأول باطل ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي ، وإذا كان كذلك : فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيا ، والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه ، ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكنا ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وذلك على الإله القديم محال ، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة ، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهيا من كل الجهات ، أو كان متناهيا من بعض الجهات ، وغير متناه من سائر الجهات ، فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة ، فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة محال . 


والبرهان الثالث : لو كان الباري تعالى حاصلا في المكان والجهة ، لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودا مشارا إليه ، وإما أن لا يكون كذلك ، والقسمان باطلان ، فكان القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة باطلا . 


أما بيان فساد القسم الأول : فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجودا مشارا إليه ، فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعدا وامتداد ، والحاصل فيه أيضا يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد ، وإلا لامتنع حصوله فيه ، وحينئذ يلزم تداخل البعدين ، وذلك محال للدلائل الكثيرة ، المشهورة في هذا الباب ، وأيضا فيلزم من كون الباري تعالى قديما أزليا كون الحيز والجهة أزليين ، وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى ، وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل . 


وأما بيان فساد القسم الثاني : فهو من وجهين : أحدهما : أن العدم نفي محض ، وعدم صرف ، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره وجهة لغيره . وثانيهما : أن كل ما كان حاصلا في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره ، فلو كانت تلك الجهة عدما محضا لزم كون العدم المحض مشارا إليه بالحس ، وذلك باطل ، فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين ، فوجب أن يكون القول به باطلا . 


فإن قيل : فهذا أيضا وارد عليكم في قولكم : الجسم حاصل في الحيز والجهة . 


فنقول : نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزا ولا جهة أصلا ألبتة ، بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه ، بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي ، وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى ، فسقط هذا السؤال . 


البرهان الرابع : لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصا بالحيز والجهة ، لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز ، لزم كونه ممكنا لذاته ، ولما كان هذا محالا كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالا . 


بيان المقام الأول : هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى ، إلا إذا كان مختصا بالحيز والجهة . فنقول : لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها ، وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره ، كان ممكنا لذاته . والدليل عليه : أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه ، والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه ، فلو كان الواجب لذاته مفتقرا إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان ، وهو محال . فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكنا لذاته ، لا واجبا لذاته ، وذلك محال . 


والوجه الثاني : في تقرير هذه الحجة : هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة . أما عند من يثبت الخلاء . فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن ، وأما عند من ينفي الخلاء فلا ، لأنه وإن كان معتقدا أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة ، إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين ، بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلا لذلك الحيز . إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز ، وكان ذلك الحيز غنيا تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال : الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا : الإله تعالى واجب الوجود لذاته . 


فإن قيل : الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه ، فنقول : هذا باطل قطعا لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف ؟ ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل المحسوسات ، وذلك لا يقوله عاقل . 


البرهان الخامس : في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصا بالحيز والجهة نقول : الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض ، والخلاء الصرف ، وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه ألبتة . وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية . 


وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الإله تعالى مختصا بحيز ، لكان محدثا ، وهذا محال ؛ فذاك محال . وبيان الملازمة : أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية ، فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به ، لأجل أن مخصصا خصصه بذلك الحيز . وكل ما كان فعلا لفاعل مختار ، فهو محدث . فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثا ، فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز ، وثبت أن الحصول في الحيز محدث ، وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، لزم القطع بأنه لو كان حاصلا في الحيز لكان محدثا ، ولما كان هذا محالا كان ذلك أيضا محالا . 


فإن قالوا : الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل ، فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو ؟ فنقول : هذا باطل ، لأن كون بعض تلك الجهات علو ، وبعضها سفلا ، أحوال لا تحصل ، إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم ، فلما كان هذا العالم محدثا كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار ، بل ليس إلا الخلاء المحض ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه ، وأيضا لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟ فلم لا يعقل أيضا أن يقال : إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب ؟ وعلى هذا التقدير ، فذلك اسم لا يكون قابلا للحركة والسكون ، فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام ، والقائل بهذا القول ، لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون ، والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم . 


البرهان السادس : لو كان الباري تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان مشارا إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك ، فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة . 


فإن قلنا : إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس ، مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة ، كان ذلك نقطة لا تنقسم ، وجوهرا فردا لا ينقسم ، فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة ، وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء ، وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك ، والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ ، فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل ، وأيضا فلو جاز ذلك ، فلم لا يعقل أن يقال : إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة ، أو ذرة ملتصقة بذنب قملة ، أو نملة ؟ ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء ، فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه . 


وأما القسم الثاني : وهو أنه يقبل القسمة ، فنقول : كل ما كان كذلك ، فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر ، وذلك على الإله الواجب لذاته محال . 


البرهان السابع : أن نقول : كل ذات قائمة بنفسها مشارا إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن . فما لا يكون ممكنا لذاته بل كان واجبا لذاته امتنع كونه مشارا إليه بحسب الحس . 


أما المقدمة الأولى : فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايرا لجانب يساره وكل ما هو كذلك فهو منقسم . 


وأما المقدمة الثانية : وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره ، وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته . 


واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد . 


البرهان الثامن : لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساويا له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسما لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايرا للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسما لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث ، فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة ، أما عندنا فظاهر ، وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى ، فثبت أن هذا المذهب باطل . 


البرهان التاسع : لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهيا من كل الجوانب . وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان ، فالقول بكونه حاصلا في الحيز والجهة باطل أيضا . أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهيا من كل الجهات ، فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية ، وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي ، وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالما آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضا فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساما أخرى ، وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى ، وكل ذلك على الله تعالى محال . 


وأما القسم الثاني : وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضا محال ، لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له ، وأيضا فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد ، فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له ، وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى ، والمباحث العقلية مبنية على المعاني ، لا على المشاحة في الألفاظ . 


البرهان العاشر : لو كان الإله تعالى حاصلا في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع ، والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلا في الحيز . 


أما فساد القسم الأول : فلأنه لما كان كونه هناك مانعا من حصول جسم آخر هناك . كان هو تعالى مساويا لسائر الأجسام في كونه حجما متحيزا ممتدا في الحيز والجهة مانعا من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه ، وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل ، والأول باطل لوجهين : الأول : أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه ، والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايرا لما به المخالفة ، وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين ، وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف . والثاني : وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد . إما أن يكون محلا لما به المخالفة . وإما أن يكون حالا فيه وإما أن يقال : إنه لا محل له ولا حالا فيه . أما الأول : وهو أن يكون محلا لما به المخالفة ، فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه ، والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات ، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي ، فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام ، وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ، ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال . 


وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : ما به المخالفة محل وذات ، وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال ، لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل ، وذلك المحل إن كان له أيضا اختصاص بحيز وجهة ، وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية ، وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجودا مجردا لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة ، وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية ، وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال . 


وأما القسم الثالث : وهو أن لا يكون أحدهما حالا في الآخر ولا محلا له فنقول : فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متباينا عن الآخر ، وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية ، لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ، ولا محالا لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية ، وحينئذ يعود الإلزام المذكور ، فثبت أن القول : بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثلاثة الباطلة فوجب كونه باطلا . 


وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة ، إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة ، فهذا أيضا محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ، لأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد ؟ فثبت أنه تعالى لو كان حاصلا في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع ، وثبت فساد القسمين ، فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالا باطلا . 


البرهان الحادي عشر : على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول : لو كان مختصا بحيز وجهة لكان . إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه حاصلا في الحيز . 


أما القسم الأول : وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول : هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان ، لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ، ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته ، وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير : هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن ، وإذا كان كذلك كان المؤثر في حصول تلك الحركة ، وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث ، فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال . 


وأما القسم الثاني : وهو أنه يكون مختصا بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضا محال لوجهين : الأول : أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز ، وذلك نقص ، وهو على الله محال . والثاني : أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضا فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز ، وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون ، والكرامية يساعدون على أنه كفر . والثالث : أنه تعالى لما كان حاصلا في الحيز والجهة كان مساويا للأجسام في كونه متحيزا شاغلا للأحياز ، ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية ، لأنه لو خالف بعضها بعضا لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالا في المتحيز أو محلا له أو لا حالا ولا محلا ، والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق . وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل . 


الحجة الثانية عشرة : لو كان تعالى مختصا بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك ، فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف ، والماء اللطيف ، وحينئذ يكون قابلا للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلبا كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه ، فثبت أنه تعالى لو كان مختصا بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقا سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء ، وإما أن يكون صلبا جاسئا كالحجر الصلد ، وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته ، وأيضا فبتقدير أن يكون مختصا بمكان وجهة ، لكان إما أن يكون نورانيا وظلمانيا ، وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض ، لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة ، إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها ، والدخول فيما بين أجزائها ، وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جاريا مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى . ويجتمع تارة ويتمزق أخرى ، وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال إن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب ؟ أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران ؟ والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي ، وأيضا فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل ؟ فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره ، فكان مؤلفا مركبا من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذاته سطحا رقيقا في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة ، والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم ، فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة . 


الحجة الثالثة عشرة : العالم كرة ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق . 


أما المقام الأول : فهو مستقصي في علم الهيئة إلا إنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفا قمريا حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلا في البلاد الشرقية في أول النهار ، فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية ، وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب ، وأيضا إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر ، كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ، ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة . 


وإذا ثبت هذا فنقول : إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين ، والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني ، فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما ، فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني ، وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتا بالنسبة إلى أقوام معينين ، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق ، فوجب أن لا يكون حاصلا في حيز معين ، وأيضا فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين ، وكان يمينا بالنسبة إلى ثالث ، وشمالا بالنسبة إلى رابع ، وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس ، وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس ، فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكا محيطا بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم ، وذلك لا يقوله مسلم ، والله أعلم . 


الحجة الرابعة عشرة : لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماسا للعرش ، أو مباينا له ببعد متناه أو ببعد غير متناه ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بكونه فوق العرش باطل . 


أما بيان فساد القسم الأول : فهو أن بتقدير أن يصير مماسا للعرش كان الطرف الأسفل منه مماسا للعرش ، فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق ؟ فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماسا لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش ، فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض ، وذلك هو القول بكونه جسما مركبا من الأجزاء والأبعاض وذلك محال ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحا رقيقا لا ثخن له أصلا ، ثم يعود التقسيم فيه ، وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركبا من الأجزاء والأبعاض ، وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءا لا يتجزأ مخلوطا بالهباآت ، وذلك لا يقوله عاقل . 


وأما القسم الثاني : وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه ، فهذا أيضا محال ، لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماسا له ، وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول . 


وأما القسم الثالث : وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية ، فهذا أظهر فسادا من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مباينا للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبن غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ، ومحصورا بين هذين الحاصرين ، والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعدا غير متناه . 


فإن قيل : أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد ، فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما : الأزل ، والثاني : أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصورا بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية ، فكذا ههنا ، وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم . 


والجواب : أن هذا هو محض المغالطة ، لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم ، فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدودا بين حدين ومحصورا بين حاصرين ، وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة . 


إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نقول إنه تعالى مختص بجهة معينة ، وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك ، فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدودا بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه ، لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف ، وكونه محصورا بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال . ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتا معينا كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعدا متناهيا لا محالة . وأما إن قلنا بالقسم الثاني : وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة ، فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة . لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ، ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث ، فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل . 


الحجة الخامسة عشرة : أنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان : إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد ، وليس يعقل في المكان قسم ثالث . 


إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المكان هو الأول فنقول : ثبت أن أجسام العالم متناهية ، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة ، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم ، وإن كان المكان هو الثاني ، فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية ، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز ، وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثا بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول ، وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين ، فيلزم كون الإله محدثا ، وهو محال . فثبت أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات . 


الحجة السادسة عشرة : وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جدا ، وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت ، كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص ، وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف ، كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل ، وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية ، فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط ، فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جدا . وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض ، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة ، فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعا من التأثيرات . وأما الهواء ، فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء ، فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء ، فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس ، وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق . وأما النار ، فإنها أقل كثافة من الهواء ، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج ، وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان . وأما الأفلاك ، فإنها ألطف من الأجرام العنصرية ، فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض ، وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات ، فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيرا وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا كان أقل حجمية وجرمية وجسمية ، وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك ألبتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة ، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزها عن الجسمية والموضع والحيز . وبالله التوفيق . فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزها عن الاختصاص بالحيز والجهة . 


أما الدلائل السمعية فكثيرة : أولها : قوله تعالى : { قل هو الله أحد } فوصفه بكونه أحدا والأحد مبالغة في كونه واحدا . والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء كثيرة جدا فوق أجزاء العرش ، وذلك ينافي كونه أحدا ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون إنه تعالى ذات واحدة ، ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة . قالوا : فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه . فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية ، وأيضا فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال : إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز ، فيظن أنها أشياء كثيرة ، ومعلوم أن من جوزه ، فقد التزم منكرا من القول عظيما . 


فإن قالوا : إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفني مع بقاء الباقي . وذلك يوجب التغاير ، وأيضا فنرى بعضها متحركا ، وبعضها ساكنا والمتحرك غير الساكن ، فوجب القول بالتغاير ، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله ، فظهر الفرق ، فنقول : أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه يفنى ذلك الجزء الآخر ، وذلك يوجب التغاير . فنقول : لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ؟ ثم إنه حصل ههنا وهناك ، وأيضا حصل موصوفا بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم ، فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك ، فأما أن يقال إنه فني في نفسه ، فهذا غير مسلم ، وأما قوله : نرى بعض الأجسام متحركا وبعضها ساكنا ، وذلك يوجب التغاير ، لأن الحركة والسكون لا يجتمعان . فنقول : إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين ، فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا ، وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن . وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة ، لم يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معا ، لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا ، وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر ، إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معا لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة ، فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ، ثم مع ذلك يمتلئ العرش منه ، لم يبعد أيضا أن يقال : العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ ، ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز ، وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات . وثانيها : أنه تعالى قال : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } فلو كان إله العالم في العرش ، لكان حامل العرش حاملا للإله ، فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا ، ومحفوظا حافظا ، وذلك لا يقوله عاقل . وثالثها : أنه تعالى قال : { والله الغنى } حكم بكونه غنيا على الإطلاق ، وذلك يوجب كونه تعالى غنيا عن المكان والجهة . ورابعها : أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات ، فإنه لما قال : { وما رب العالمين } ففي المرة الأولى قال : { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } وفي الثانية قال : { ربكم ورب آبائكم الأولين } وفي المرة الثالثة : { قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية ، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال : { يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى } فطلب الإله في السماء ، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية ، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى ، وسائر جميع الأنبياء ، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة . وخامسها : أنه تعالى قال في هذه الآية : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } وكلمة «ثم » للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السماوات والأرض ، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار ، لزم أن يقال : إنه ما كان مستقرا على العرش ، بل كان معوجا مضطربا ، ثم استوى عليه بعد ذلك ، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة ، والسكون أخرى ، وذلك لا يقوله عاقل . وسادسها : هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسما ، لكان أبدا غاربا آفلا . وكان منتقلا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار ، فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعنا في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلا في إله العالم ، فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته . وسابعها : أنه تعالى ذكر قبل قوله : { ثم استوى على العرش } شيئا وبعده شيئا آخر . أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } وقد بينا أن خلق السماوات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة . وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء : أولها : قوله : { يغشي الليل لنهار يطلبه حثيثا } وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله ، وعلى قدرته وحكمته . وثانيها : قوله : { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وهو أيضا من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم . وثالثها : قوله : { ألا له الخلق والأمر } وهو أيضا إشارة إلى كمال قدرته وحكمته . 


إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم ، وآخرها يدل أيضا على هذا المطلوب ، وإذ كان الأمر كذلك فقوله : { ثم استوى على العرش } وجب أن يكون أيضا دليلا على كمال القدرة والعلم ، لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقرا على العرش كان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده ، فإن كونه تعالى مستقرا على العرش لا يمكن جعله دليلا على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضا من صفات المدح والثناء ، لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش ، فثبت أن كونه جالسا على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء ، فلو كان المراد من قوله : { ثم استوى على العرش } كونه جالسا على العرش لكان ذلك كلاما أجنبيا عما قبله وعما بعده ، وهذا يوجب نهاية الركاكة ، فثبت أن المراد منه ليس ذلك ، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب . وثامنها : أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا ، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء ، فلو كان إله العالم موجودا فوق العرش ، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش . فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقا لكل السماوات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقا لنفسه وذلك محال . 


وإذا ثبت هذا فنقول : قوله : { الذي خلق السماوات والأرض } آية محكمة دالة على أن قوله : { ثم استوى على العرش } من المتشابهات التي يجب تأويلها ، وهذه نكتة لطيفة ، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام : { وهو الله في السماوات } ثم قال بعده بقليل : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السماوات ، فهو ملك لله فلو كان الله في السماوات لزم كونه ملكا لنفسه ، وذلك محال فكذا ههنا ، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله : { ثم استوى على العرش } على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز ، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان : الأول : أن نقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله ، وهو الذي قررناه في تفسير قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به } وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه . 


والقول الثاني : أن نخوض في تأويله على التفصيل ، وفيه قولان ملخصان : الأول : ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال : { العرش } في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك ، يقال : ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد . وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا : استوى على عرشه ، واستقر على سرير ملكه ، هذا ما قاله القفال . وأقول : إن الذي قاله حق وصدق وصواب ، ونظيره قولهم للرجل الطويل : فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد ، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيبا ، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها ، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش ، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة ، ثم قال القفال رحمه الله تعالى : والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله ، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه ، فإذا قال : إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء ، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة ، وإذا قال : قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات ، وتكوين الممكنات ، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد ، والتكوين عن الآلات والأدوات ، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية ، وهكذا القول في كل صفاته ، وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب لهم موضعا يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه ، وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه ، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه . 


إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه تعالى أخبر أنه خلق السماوات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع ، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش ، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد ، فكان قوله : { ثم استوى على العرش } أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال . ثم قال القفال : والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } فقوله : { يدبر الأمر } جرى مجرى التفسير لقوله : { استوى على العرش } وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها : { ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر } وهذا يدل على أن قوله : { ثم استوى على العرش } إشارة إلى ما ذكرناه . 


فإن قيل : فإذا حملتم قوله : { ثم استوى على العرش } على أن المراد : استوى على الملك ، وجب أن يقال : الله لم يكن مستويا قبل خلق السماوات والأرض . 


قلنا : إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادرا على تخليقها وتكوينها وما كان مكونا ولا موجودا لها بأعيانها بالفعل ، لأن إحياء زيد ، وإماتة عمرو ، وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال ، فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال ، صح أن يقال : إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السماوات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السماوات والأرض ، وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع . 


والوجه الثاني : في الجواب أن يقال : استوى بمعنى استولى ، وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا . 


والوجه الثالث : أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى : علا واستعلى على الملك فيكون المعنى : أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت ، واعلم أنه تعالى ذكر قوله : { استوى على العرش } في سور سبع . إحداها : ههنا . وثانيها : في يونس . وثالثها : في الرعد . ورابعها : في طه . وخامسها : في الفرقان . وسادسها : في السجدة . وسابعها : في الحديد ، وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة ، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغا كثيرا وافيا بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر . 


وفي تفسير الأمام الرازي 



الرحمن على العرش استوى) سورة طه



 * ففيه مسائل:

المسألة الأولى: قرىء الرحمن مجرورا صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعا على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح؟ قلنا: إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ.

المسألة الثانية: المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه. أحدها: أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان، ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنيا عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش. وثانيها: أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفا مركبا وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال. وثالثها: أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكنا من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثا لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم. ورابعها: هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل، وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه


بذلك المكان فيكون محتاجا وهو على الله محال. وخامسها: أن قوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته، فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية. وسادسها: قوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله. وسابعها: أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلها فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثا ولم يكن إلها فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر. وثامنها: أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس، فلو كان المعبود مختصا بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقا لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المعبود تحت جميع الأشياء. وتاسعها: أجمعت الأمة على أن قوله: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصا بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة فيبطل قوله: * (قل هو الله أحد) *. وعاشرها: أن الخليل عليه السلام قال: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76) ولو كان المعبود جسما لكان آفلا أبدا غائبا أبدا فكان يندرج تحت قوله: * (لا أحب الآفلين) * فثبت بهذه الدلائل أن الاستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه قولان، الأول: أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار: قوله عليه السلام " الحجر الأسود يمين الله في الأرض "، وقوله عليه السلام: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن " وقوله عليه السلام: " إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن " واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين: الأول: أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الاستواء الجلوس وهذا هو التأويل. وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكا فيه فهو جاهل بالله تعالى، اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفا من الخطأ فهذا يكون قريبا، وهو أيضا ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز. والثاني: وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن

(٦)


الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار، فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين، وإما أن نتركهما معا، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل. والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزها عن المكان وحاصلا في المكان وهو محال. والثاني: أيضا محال لأنه يلزم رفع النقيضين معا وهو باطل. والثالث: باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معا، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الاستواء الإستيلاء قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه. أحدها: أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال. وثانيها: أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه، وكان المستولى عليه موجودا قبل ذلك، وهذا في حق الله تعالى محال، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه. وثالثها: الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. والجواب: أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على البلد يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد، ومنه قوله تعالى: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم) * (المائدة: 64) أي هو بخيل * (بل يداه مبسوطتان) * (المائدة: 64) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط، والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن. وأقول: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضا يقولون المراد من قوله: * (فاخلع نعليك) * (طه: 12) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل، وقوله: * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) * (إبراهيم: 69) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة، وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى، بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه، فهذا تمام الكلام في هذه الآية، ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق




No comments:

Post a Comment

നമസ്കാരത്തിൽ നെഞ്ചത്ത് കൈ കെട്ടൽ കറാഹതാകുന്നു : ഇബ്നുതൈമിയ്യ.

  നമസ്കാരത്തിൽ നെഞ്ചത്ത് കൈ കെട്ടൽ കറാഹതാകുന്നു : ഇബ്നുതൈമിയ്യ. ഇമാം ഇബ്നുതൈമിയ്യ  തന്റെ شرح العمدة : ٦٦٠، ٦٦١، ٦٦٢، ٦٦٣، ٦٦٤ പേജുകളിൽ എ...